التلمسانى صمام أمان لشعب ووطن وجماعة


الأستاذ عمر التلمساني طراز فريد من الرجال والذي تحمل مسئولية الاخوان في فترة من أصعب الفترات في عمر دعوة الإخوان المسلمين مع مطلع السبعينيات من القرن العشرين بعد غياب في السجون والمعتقلات لأكثر من عشرين عامًا،

ولد الأستاذ عمر عبد الفتاح عبد القادر مصطفى التلمساني في حارة حوش قدم بالغورية قسم الدرب الأحمر بالقاهرة في 4 نوفمبر عام 1904م، وتوفي في يوم الأربعاء 13 من رمضان 1406هـ الموافق 22 مايو 1986 عن عُمْر يناهز 82
كان جده ووالده يعملان في بادئ الأمر في تجارة الأقمشة والأحجار الكريمة، وتنتشر تجارتهما ما بين القاهرة وجدة وسواكن والخرطوم وسنغافورة، ثم أنهيا تجارتهما واتجها إلى الزراعة في القليوبية، واستقرا في قرية نوى التابعة لمركز شبين القناطر القريب من القاهرة.
عامًا.نشأ عمر التلمساني في أسرة كريمة تتمسك بالدين والخلق، وكان جده سلفي النزعة، طبع العديد من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب على نفقته الخاصة. تلقى عمر دراسته الابتدائية في إحدى مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية، ثم تلقى تعليمه الثانوي في المدرسة الإلهامية الثانوية بالحلمية، وكانت أسرته قد انتقلت إلى القاهرة بعد وفاة جده.
وفي هذه الفترة المبكرة من حياته قرأ كتب الأدب الشعبي من أمثال سيرة عنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن، وطالع كل ما كتبه المنفلوطي من أمثال البؤساء، وإلى جانب ذلك حفظ القرآن الكريم وقرأ كثيرا من أمهات الكتب العربية، مثل تفسير القرطبي والزمخشري وابن كثير، وطبقات ابن سعد، ونهج البلاغة، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وصحيح البخاري ومسلم، كما طالع من الأدب العالمي روايات إسكندر ديماس، وأميل زولا، ومال إلى الموسيقى، وعزف على العود سنين.
وهذه الثقافة المتنوعة هي التي طبعت شخصية التلمساني، ووسعت أفقه ونظرته الإنسانية، وأرهفت حسه ومشاعره، وأنضجت خبراته ومواقفه في الحياة.
ويصور هو شخصيته السمحة بقوله: "كنت "بحبوحا" أحب النكتة البريئة، والقفشة الرقيقة، متسامحا مع كل 
من أساء إليّ بالقول والعمل، وأتركه إلى الله، وما كنت أحب إحراج محدثي أو أقنعه بأن الحق إلى جانبي، إذا ما ألفيته متعصبا لرأيه".
وبعد حصوله على الثانوية العامة سنة (1343 هـ=1924م) التحق بكلية الحقوق وتخرج فيها سنة (1350هـ=1931م)، واتجه إلى مهنة المحاماة، ووجد فيها مبتغاه، وكان يرى فيها مهنة الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم، ومهنة العقل الراجح في إقامة الدليل والبرهان. وغرامه بالحرية هو الذي جعله يختار المحاماة، حتى إنه عزف عن العمل في النيابة حين عرض عليه ذلك؛ هروبا من قيود الوظيفة.
حصل على ليسانس الحقوق، واشتغل بمهنة المحاماه، وفي شبين القناطر كان مكتبه، وظل يدافع عن المظلومين حتى جاءت سنة 1933م التى التقى خلالها بالإمام الشهيد "حسن البنا" في منزله، وبايعه، وأصبح من الإخوان المسلمين
التقى عمر التلمساني عام 1933 بحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في منزله وبايعه.  وكان أول محامٍ يدخل الدعوة المباركة وقد كان للتلمساني منذ توليه منصب المرشد العام سنة 1974خلفا لحسن الهضيني دور مهم في استقرار جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
تمثل التلمساني نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين قال لها: "مهلا يا عائشة، عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش"، ودارت حياته كلها حول هذا المعنى: الرفق في الأمور، واختيار الأسلوب الهادئ، والكلمة الطيبة، والعبارة المهذبة، والابتسامة المشرقة، والصوت الهادئ.
وكان هذا الهدوء والثقة يعكسان شخصية قوية صلبة لا تلين، تواجه الأعاصير بابتسامة واثقة، وتتصدى للأزمات بأحسن الكلم وتمسك بزمام نفسها، ولا تضطرها العواصف ولا غدر الناس أن تنال من هدوئها ولا سلامة منطقها.
وشاء الله له أن يلم شعث جماعة الإخوان المسلمين؛ إذ كانت شخصيته الرفيقة الدقيقة تجذب الناس إلى الجماعة، وكانت أخلاقه السمحة عنوانا لها، فأقبل الناس عليها وعاد ما كان لها من قوة وتأثير.
دخل السجن عام في عام 1948 ثم 1954 ثم في عام 1981م، فما زادته الابتلاءات إلا صلابة وثباتًا.
إن انضمام التلمساني المبكر إلى جماعة الإخوان يكشف  عن رغبة صادقة من التلمساني في خدمة دينه 
والدفاع عنه. ويذكر التلمساني في مذكراته أنه رشح نفسه مرتين لمجلس النواب، لكي يصدع بكلمة الحق والدعوة الإسلامية في أعلى هيئة تشريعية في البلاد لكنه لم يوفق، ومنذ هذه اللحظة بدأت مسيرة التلمساني في جماعة الإخوان، وشاهد بداياتها وصعودها وكبواتها والمحن التي ألمت بها، والضربات التي وجهت للقضاء عليها أو وقف مسيرتها أو احتوائها. ولم يكن هو بعيدا عن ذلك كلية، حيث كان عضوا في مكتب إرشاد الجماعة، وتعرض للاعتقال في الفترة الملكية إذ قبض عليه بعد استشهاد الإمام حسن البنا سنة (1369هـ= 1949م) مع الآلاف من أعضاء الجماعة.
ثم كانت الأحداث الدامية في سنة (1374هـ=1954م) حيث نكلت حكومة جمال عبد الناصر بجماعة الإخوان، وألقت بالآلاف منهم في السجون، وعقدت لهم المحاكمات العسكرية ، وكان من نصيب التلمساني أن حكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة 15 عاما، ثم أعيد اعتقاله فور انتهاء المدة سنة (1389هـ = 1969م) حتى أفرج عنه عام (1391هـ= 1971م)، وبعد 10 سنوات من الإفراج عنه اعتقل مرة أخرى في أحداث سبتمبر الشهيرة سنة (1401هـ= 1981م) في عهد الرئيس السادات.
بعد وفاة الأستاذ حسن الهضيبي ونائبه الدكتور خميس حميدة تحمل عمر التلمساني أعباء الجماعة باعتباره أكبر أعضاء مكتب الإرشاد سنا، ولم يكن للجماعة وضع قانوني منذ أن عُصف بها وبفروعها، فكان هو مرجع جماعة الإخوان الأدبي والمعنوي دون أن يكون هناك أي تنظيم لا ترضاه الجهات المسئولة عن الأمن في مصر، وقد اعترف المسئولون في مصر بهذا الوضع، واعتبروه مسئولا عن الإخوان المسلمين وتعاملوا معه على هذه الصفة.
وكان السادات قد بدأ حكمه بإخراج الإخوان من المعتقلات، وترك لهم قدرا من الحرية في الحركة، ثم ظهر المد الإسلامي بعد معركة العاشر من رمضان، واشتدت الصحوة الإسلامية في أنحاء البلاد، وقيل: إن السادات كان يهدف من وراء ذلك للقضاء على التيار الماركسي، وأيا ما كانت دوافع الرجل التي لا يعلمها إلا الله، فقد شهدت البلاد مدا إسلاميا واضحا في الحياة وبخاصة بين شباب الجامعات ؛ كان لجماعة الإخوان نصيب في الصحوة الإسلامية بعد أن نجح التلمساني بمعاونة إخوانه في جمع ما تفرق من الجماعة بعد المحن الرهيبة التي أصيبت بها.
وصاحب عودة جماعة الإخوان إلى نشاطها الإصدار الثاني لمجلة الدعوة في (شهر رجب 1396هـ=يوليو 1976م) التي تولى إدارتها والإشراف عليها عمر التلمساني ورأس تحريرها صالح عشماوي، وكان للمجلة دور كبير في انطلاق دعوة الإخوان وتعريف الأجيال الجديدة بمبادئها وبالمحن وجرائم التعذيب التي حلت بها في الحقبة الناصرية، وكان الأستاذ عمر التلمساني يتولى كتابة افتتاحيات المجلة الشهرية التي تحمل أفكار الجماعة وموقفها تجاه الأحداث، ومطالبتها الدائمة بعودة نشاطها الرسمي تحت بصر الدولة وبموافقتها.
ولما أقدم السادات على زيارة إسرائيل سنة 1977م وعقد معاهدة كامب ديفيد أعلن التلمساني معارضته ومعارضة الجماعة لهذه الخطوة، ورفض تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وتتابعت مقالاته التي تحذر من هذه السياسة في قوة وشجاعة.
وترتب على موقف الجماعة من معاهدة السلام والتطبيع مع إسرائيل أن ساءت العلاقات بينها وبين الدولة التي لم يتسع صدرها للنقد والمراجعة، فضاقت بمعارضة الإخوان لسياستها. وفي ندوة الفكر الإسلامي التي عقدت في الإسماعيلية في (شهر رمضان 1399هـ= أغسطس 1979) وحضرها التلمساني وجه السادات له وللإخوان تهما عديدة، من بينها التخريب والعمالة وإثارة الطلبة وإشعال الفتنة الطائفية، وما كان 
من التلمساني إلا أن طلب الرد تعقيبا على اتهامات السادات، ووقف أمامه وقال له: "لو أن غيرك وجه إليّمثل هذه التهم لشكوته إليك، أما وأنت يا محمد يا أنور يا سادات صاحبها، فإني أشكوك إلى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، لقد آذيتني يا رجل، وقد أَلزم الفراش أسابيع من وقع ما سمعته منك".
وارتج السادات لوقع هذه الكلمات الصادقة النابضة بالثقة والإيمان فقال له: "إنني لم أقصد الإساءة إلى الأستاذ عمر ولا إلى الإخوان المسلمين.. اسحب شكواك.."، فأجابه التلمساني بأنها رفعت إلى من لا أستطيع استرداد ما وضعته بين يديه. وبعد أن انتهى الاجتماع أرسل السادات كلا من عبد المنعم النمر وزير الأوقاف ومنصور حسن وزير الثقافة والإعلام لاسترضاء التلمساني، وأن الرئيس لم يقصد الإساءة إلى شخصه وسيحدد موعدا لمقابلته.
وبعد أشهر قليلة التقى التلمساني بالسادات في استراحة القناطر الخيرية في شهر (ربيع الأول 1400هـ= ديسمبر 1979م) ويحكي هو عن أحداث هذه المقابلة بقوله: "لا يفوتني أن أذكر -إنصافا للسادات- يوم أن قابلته باستراحة القناطر الخيرية أنني وجدت أمامه مجموعة من أعداد مجلة الدعوة، وأخبرني أن الإسرائيليين يشكون ويحتجون على هذه الحملات الإخوانية، فأجبته بأن معارضتي لمعاهدة السلام والتطبيع وموقف إسرائيل بأجمعه مبعثه ديني محض، ولا علاقة له بما يسمونه سياسة دولية أو غير دولية، وإن ديني يحتم عليّ أن أستمر في هذه الحملة حتى تنجلي الغمة. وراعني حقا أن الرجل بعد الاستماع إليّ قال لي بمنتهى الصراحة والوضوح والرضا: اكتب. ولن أنساها للسادات ما حييت رغم ما لقيته منه يرحمني ويرحمه الله".
وهذه الروح السمحة والميل إلى العدل والإنصاف يذكرنا بموقفه وهو في السجن حين بلغه نبأ وفاة جمال عبد الناصر، فقال: "مات؟ انتهى؟ ذهب إلى الله؟ الله يرحمه"، وتصايح الإخوان الذين كانوا معه في غضب: كيف يرحم الله قاتل العشرات وجلاد الآلاف، فقال لهم: "نحتسب ما أصابنا في سبيل الله، ولا داعي للشماتة".
ولما اشتدت المعارضة لسياسة السادات الداخلية والخارجية لم يلجأ (السادات) إلى احتوائها والتفاهم معها،  الأمر الذي أفقد السادات صبره ولجأ إلى سياسة التحفظ والاعتقال، فأدخل إلى السجن زعماء المعارضة من جميع ألوان الطيف السياسي فيما عرف بأحداث 3 سبتمبر 1981م، ولم يسلم قادة جماعة الإخوان المسلمين وعلى رأسهم التلمساني من هذه الإجراءات، وظل معتقلا ولم يفرج عنه إلا في بداية حكم الرئيس مبارك الذي خلف السادات عقب اغتياله في حادث المنصة المشهور.
وبعد خروجه قاد الجماعة إلى مزيد من اندماجها في الحياة العامة من خلال مشاركتها في الانتخابات، فبدأت الجماعة تحقق نجاحات واضحة في انتخابات النقابات المهنية، ودخل عدد من قادتها مجلس الشعب المصري في انتخابات 1984 بعد تحالفها مع حزب الوفد المصري، وكان قد تم الاتفاق بين الإخوان والوفد على خوض الانتخابات متعاونين حتى في الدوائر التي ليس فيها مرشحون للإخوان فإنهم سيعطون أصواتهم للوفد.
وفي غمرة قيادته لجماعة الإخوان والأعباء الملقاة على عاتقه لم ينس أنه صاحب قلم،  وكان من ثمرة ذلك عدة كتب كان يعتبرها -لتواضعه- خواطر جمعت في كتب، وليس فيها ما يستحق إلحاقه بالمؤلفات، وهذه الكتب هي:
1- قال الناس ولم أقل عن حكم عبد الناصر. آراء المعارضين في جمال عبد الناصر وحكمه: دار الأنصار – القاهرة – 1400 هـ، 347 صفحة.
2- الملهم الموهوب حسن البنا أستاذ الجيل: دار التوزيع والنشر الإسلامية – القاهرة – 1404 هـ، 158 صفحة.
3- الإسلام ونظرته السامية للمرأة: دار الوفاء – المنصورة، 54 صفحة.
4- أيام مع السادات: دار الاعتصام – القاهرة - 1404هـ، 144 صفحة.
5- ذكريات لا مذكرات: دار الاعتصام – القاهرة – بدون تاريخ، 285 صفحة.
6- شهيد المحراب، عمر بن الخطاب: دار الأنصار – القاهرة – 1397هـ، 384 صفحة.
7- الخروج من المأزق الإسلامي الراهن: دار الوفاء – المنصورة – مصر – 1400هـ.
8- الحكومة الدينية: دار الاعتصام – القاهرة.
9- الإسلام والحياة: دار التوزيع والنشر الإسلامية – القاهرة – 1412هـ.
ظلت سماحته وسلامة نفسه وحياؤه الشديد ورغبته في الإصلاح هي مفتاح شخصيته، وكان يلوذ بالنفس الطويل، والصبر الجميل ويحاول بالإقناع المتكرر أن يبلغ هدفه، وكان يركز اهتمامه على ما يجمع ويقرب الصفوف، وكان يتجنب في حديثه كل عبارة أو كلمة يرى أنها تخدش المشاعر أو تؤذي السمع، وأصدق ما قيل عنه ما وصفه به الشيخ محمد الغزالي بأنه كان "ملكا كريما في إهاب بشر أرهقته السنون".
وقد غادر التلمساني الدنيا في (13 من رمضان 1406 هـ= 22 من مايو 1986م).

0 التعليقات:

إرسال تعليق